الشيخ الذهبي.. شهيد الأزهر
الشيخ الذهبي.. شهيد الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
عالم أزهري عشق العلم من نعومة أظفاره في قريته (مطوبس) التي تقع على الشاطئ الشرقي للنيل تابعة لمحافظة كفر الشيخ،حيث ولد بها عام 1915م، وانتقل والده إلى الدار الآخرة وهو لا يزال في مقتبل عمره…
فأهتم بتربيته وتعليمه شقيقه الأكبر حسين؛ فحفظ القرآن وأتقنه وتلقى مبادئ القراءة والكتابة في قريته ثم انتقل إلى معهد دسوق الديني حيث أتم دراسته الثانوية ورحل بعد ذلك إلى القاهرة والتحق بالأزهر الشريف وتلقى العلم على يد جلة علماء عصره.
ومن أجل أولئك الشيوخ والعلماء الأكابر الذين أخذ عنهم وتأثر بهم؛ الشيخ محمد مصطفى المراغي، وعيسى منون، ومحمد زاهد الكوثري، ومحمد حبيب الشنقيطي، ومحمد الخضر حسين،ومأمون الشناوي وغيرهم.
كما تدرج الشيخ الذهبي في الدراسة الأكاديمية حتى حصل على الشهادة العالية من كلية الشريعة عام 1936م، وكان أول الناجحين، ثم نال شهادة العالمية من درجة أستاذ في علوم القرآن الكريم في 15 فبراير 1947م.
وقد أثنى عليه أقرانه وأحبابه، فقال فيه قال فيه الدكتور إبراهيم أبو الخشب :
لم يخط للمجد إلا مؤمنا كلفا يحدوه حاد من الأخلاق والأدب
ولم يكن أبدا إلا على ثقة من ربه وهو مولى كل ذي أرب
موكل بمعاني النبل تقرؤها في وجهه من قديم الدهر والحقب
وكان للشيخ مشاركات علمية خارج مصر؛ فانتدب مع بعض علماء بلده إلى المملكة العربية السعودية للتدريس فيها مابين 1948 ـ 1951م في مدينة الطائف والمدينة المنورة.
ثم عاد إلى القاهرة للعمل بالمعاهد الأزهرية من 1952 ـ 1954م ثم انتقل عام 1955م للتدريس بكلية الشريعة.
كما انتدب ـ رحمه الله ـ للتدريس بالعراق في كليتي الحقوق 1955م والشريعة ببغداد 1961 ـ 1963م وصارت إليه رئاسة قسم الشريعة فيها.
ولما كان ـ رحمه الله ـ ملماً بالمذهب الشيعي عقيدة وفقهاً فقد أسند إليه تأليف وتدريس الأحوال الشخصية بين أهل السنة والجعفرية وهو كتاب يدل على تبحره في أصول الفقه وفروعه وإحاطته بالمذاهب كما تدل اختياراته ترجيحاته الفقهية على عدم تعصبه لمذهبه الحنفي، وقد صحبه مجموعة من علماء مصر في تلك الفترة المباركة.
كما تصدر ـ رحمه الله ـ للخطابة مرات عديدة في مسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان وكانت له مشاركات مع كبار علماء العراق أمثال : الشيخ كمال الطائي خطيب مسجد المرادية والشيخ عبد الله القاضي قاضي بغداد فيما بعد.
وبعد عودته من العراق إلى مصر أسهم ـ رحمه الله ـ في إنشاء كلية البنات الإسلامية والتدريس بها من 1963 ـ 1964م وتتلمذ على يديه الكثير من النابغات.
وندب بعد للتدريس في جامعة الكويت من 1968 ـ 1971م ونعم في تلك الفترة بصحبة الشيخ علي حسب الله رئيس قسم الشريعة بكلية دار العلوم، ومجموعة من العلماء الأفاضل.
واختير ـ رحمه الله ـ أميناً مساعداً لمجمع البحوث الإسلامية في 16/1/1972م، ثم عميداً لكلية الشريعة وأصول الدين في 17/ 9/ 1973م، ثم أميناً عاما للمجمع في 1/6/1974م.
وله ـ رحمه الله ـ مشاركات ومناقشات على أبحاث علمية في الأزهر الشريف وخارجه.
وكان ـ رحمه الله ـ عصامي النفس عالي الهمة صداعاً بالحق حرباً على البدع والمنكرات، حنفي المذهب غير متعصب له، داعيا إلى نبذ الخلاف وفتح باب الاجتهاد .
وكان مفسراً نابغاً ولم يكن الشيخ أبو زهرة ـ رحمه الله ـ يلقبه أو يناديه إلا بإمام المفسرين.
وكان محدثاً متقناً وخطيباً مفوهاً تهتز له أعواد المنابر غيوراً على دينه ومربياً ومعلماً يروم الإصلاح ويبغي التقدم للأمة.
وظهرت بعض آثاره العملية في إدارة أعمال بلده مصرعندما تم تعيينه وزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر في (16 ابريل 1975م)،فصار مشرفاً على شؤون الدعوة الإسلامية؛ وصدع بصدق توجيهاته وحسن اختياره للدعاة والعمل معهم على أن يكونوا مثلاً عالية وألسنة صادقة وهداة إلى الحق وأساة للأدواء وأعوانا على البر والتقوى ومغاليق للشرور والآثام ونماذج لسماحة الإسلام وعزة الإيمان، ولم يمكث في الوزارة كثيرا وخرج منها في (9 / 11 / 1976م)، وظفرت به كلية أصول الدين مرة أخرى أستاذا للتفسير وعلوم القرآن حتى لقي ربه شهيداً في (3 / 7 / 1977م).
وكان عفيف اللسان والقلم ذا أدب رفيع وفقه في الدين تملكته خشية الله وزانته طمأنينة المؤمن وإخبات الصالحين وأوتي نصيبا موفورا من الحكمة التي أثرت إنتاجه وأذاعت فضله وأضاءت أفقه وشهرت سيرته وباعدت بينه وبين شطط الأقوال وزلل الآراء وخطل الأفكار.
سعى هذا الشيخ الذهبي -رحمه الله- لإزاحة ظُلَمِ الأفكار المضللة لخوارج العصر عن نور المنهج القويم لسيد المرسلين نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، بقلمه ولسانه وإرشاده، فبين ووضح وحذَّر المسلمين من أهل بلده بخطرهم، وكان مما قاله وكتبه عنهم:( يبدو أن فريقاً من المتطرفين الذين يسعون فى الأرض فساداً، ولا يريدون لمصر استقراراً، قد استغلوا فى هذا الشباب حماس الدين، فأتوهم من هذا الجانب، وصوَّروا لهم المجتمع الذى يعيشون فيه بأنه مجتمع كافر، تجب مقاومته ولا تجوز معايشته، فلجأ منهم من لجأ إلى الثورة والعنف، واعتزل منهم من اعتزل جماعة المسلمين، وآووا إلى المغارات والكهوف، ورفض هؤلاء وأولئك المجتمع الذى ينتمون إليه لأنه فى نظرهم مجتمع كافر!!”).
لم يَرُق لخوارج العصر إسفار تلك الإضاءات النيِّرات في نفق ظُلمات أفكارهم وتصوراتهم الضالات المضلات، فسعوا لإطفاء شعلة هذا المصباح بكل ماأُوتوا من قوة في المساء والصباح،وقاموا بكل الحيل والخدع لقتل الشيخ الذهبي، حتى وصلوا لمأربهم واختطفوا الشيخ من منزله، بعد انتحال أعضاء جماعة منهم صفة ضباط الشرطة، وطالبوا الحكومة بالفدية وإصدار بيان يدعم أفكارهم، فلما بدأت التحريات والأجهزة الأمنية بمباشرة أعمالها لكشف مكان احتجاز الشيخ، قتلوه، ووجد في شقة الجناة جثة هامدة على سرير، مقتولا بطلق ناري في عينه اخترق دماغه.
وقد كان الشيخ- رحمه الله- وزيراً للأوقاف قبل مقتله، ولكنه ترك الوزارة وعاد للتدريس في الأزهر فوافاه الأجل وهو مدرس في جامعة الأزهر الشريف…
فُجعت مصر بعلمائها وعامة شعبها بخبر استشهاد الشيخ،وخسرت عالماً أزهرياً جليلاً كان قائما بواجب البيان وكشف شبهات المبطلين، وقف شجاعاً ليدفع عن وجه الشريعة الغراء تطرف الغلاة، ومضى إلى ربه تعالى شهيداً مظلوماً.
ومما قاله الدكتور إبراهيم أبو الخشب في رثائه :
في ذمة الله والإسلام والعرب ما سال من دمك المسفوك ياذهبي
خطفت في ليلة مانام حارسها وذقت فيها الذي قد ذقت من وصب
قتلت ياداعي الرحمن في غسق وللردى سبب لابد من سبب
سيان من مات في أمن وفي دعة ومن يموت صريع الجهل والشغب
لكنما لشهيد الحق منزلة يحيا بها رغم ما للموت من حجب
وصلى عليه في الجامع الأزهر وأم المصلين الشيخ صالح الجعفري إمام وخطيب الجامع الأزهر آنذاك وحضر الصلاة عليه الآلاف من زملائه وتلاميذه ومحبيه وبكاه كل من اغترف من علمه أو ذاق حلاوة عشرته أو لمس صلابة دينه وصفاء سريرته وأكبر فيه عزة نفسه وعلو كرامته أو ناله بره من قريب أو بعيد.
وشيعت جنازته في مشهد مهيب ووري جثمانه الثرى في مدافن الأسرة بحي الإمام الشافعي طيب الله ثراه وأسكنه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.