fbpx

صناعة التطرف وتفكيك المجتمعات

صناعة التطرف وتفكيك المجتمعات
Ar

صناعة التطرف وتفكيك المجتمعات

د. أيمن السيد عبد الوهاب

التطرف ليس سمة يكتسبها الإنسان في لحظة بعينها، لكنها عملية تغذية مستمرة تصبغها وتشكلها البيئة الحاضنة لهذا الإنسان. لذا فللتطرف أشكال متعددة -ليست دينية فقط-ودرجات تتباين في حدتها من شخص إلى آخر وفقا لمكوناته وقدراته النفسية والاجتماعية والثقافية، وحدود تفاعله مع البيئة الحاضنة للتطرف.

إن صناعة التطرف كعملية، تعنى أنها تستند إلى ديمومة وديناميكية توفر تغذية مستمرة لتحولات المتطرف واتجاهاته الفكرية والسلوكية، وتوضح أيضا أن سبل ومنطلقات تفكيك المجتمعات وضرب تجانسها وتماسكها تتم عبر عمليات تفكيك ممنهجة نلتمسها في مجتمعاتنا العربية، وتستند كذلك إلى أيدي الكثيرين من أبناء مجتمعاتنا تحت كثير من الدعاوى الحقوقية والاتجاهات المحافظة، جنبًا إلى جنب مع توظيف التدين واستغلال النص وفق تفسيرات منحرفة تدعم التعصب للفكرة والعصبة لا للدين.

صناعة التطرف وتفكيك المجتمعات
مؤسسة سند

صحيح أن التطرف ظاهرة عولمية، تفرض أفكاره الظلامية على الكثير من دول العالم ومجتمعاتها، ولكن صحيح أيضا أن ربط التطرف في مجتمعاتنا بالإسلام لا تخلو من توظيف دولي يرتبط بمصالح العديد من القوى الدولية الساعية لاستنزاف موارد تلك المنطقة، فالمتطرف أيًا كان ينطلق من أفكار وممارسات لا ترتبط بدين سماوي ولاغير سماوي بعينه، ولا بمنطقة ما، ولا بمجتمعات دون أخرى، ولا بشرائح وفئات معينة من البشر، ولكنها فكر وقيم وثقافة يتم تغذيتها عبر الأيديولوجية والراديكالية الفكرية.

1ـ مراحل التطرف

يعرف التطرف بأنه تبني الفرد لمواقف متشددة في مواجهة بعض القضايا الاجتماعية التي يهتم بها المتطرف، كما يعرف التطرف بأنه خروج على القواعد الفكرية والقيم والمعايير والأساليب السلوكية الشائعة في المجتمع.وتشير العديد من الدراسات الاجتماعية والنفسية، إلى أن حالة التطرف تنمو عبر مرحلتين، الأولى: يعبر فيها المتطرف عن نفسه من خلال العزلة أو السلبية أو الانسحاب. والثانية تبدأ مع الانتقال إلى ممارسة العنف استنادًا إلى مخزون التوترات التي تراكمت وتعمقت في المرحلة الأولى حيث شكلت الطاقة الدافعة لسلوكياته. وهنا قد يأخذ العنف أشكال متعددة (تبدأ باللفظي وتمر بمستويات متعددة من العنف السلوكي وتنتهي بالإرهاب)، كما يمكن أن يكون التطرف والعنف فرديًا أو جماعيًا، كذلك يمكن أن ينتقل الفكر المتطرف الذي قد لا يجرم قانونًا إلى واقع وسلوك عنيف يستهدف محاولة فرض الرأي بالقوة، بل قد يتعمق هذا السلوك لممارسة الإرهاب مع فرض حالة من الخوف والقلق والتوتر الدائم عند الأطراف الأخرى.

2ـ التطرف المجتمعي

صحيح أن ركائز بناء كثير من الدول ليست قوية، وصحيح أيضا أن كثيرًا من المجتمعات تعانى من ضعف التماسك والاندماج الوطني، ولذا تتباين درجات التأثير والإضعاف بين الدول والمجتمعات، وأيضا درجات القبول المجتمعي للتطرف، فالأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا وفي إسرائيل تعد مشروعة (رغم بعض التحفظات والمخاوف من تناميها داخل دولها)، لأنها تمثل معارضة سياسية لاتتجاوز الدستور ولا القانون الخاص بدولها، ولا يتم احتضان أفكارها “وشيطنتها” من قبل القوى الدولية،أو مواجهتها من قبل الرأي العام العالمي والمؤسسات الدولية.

ولكن صحيح كذلك، أن تنامى التطرف الاجتماعي يلقي بظلاله الكثيفة على التطرف الديني، والتي تلقي بالتبعية ظلال أكثف على تحديد التطرف والمتطرفين، وتفاعلاتهم المجتمعية وهو ما يفرز وتيرة عالية من التوترات الاجتماعية الناتجة عن ضعف آلية التوافق على القيم الحاكمة والمنظمة للتفاعلات الاجتماعية وسبل المعيشة.

لذا تبدو صناعة التطرف، لاسيما الدينية أبرز المخاطر التي تواجه مجتمعاتنا، كما أنها تمثل عماد سياسات تفكيك المجتمعات وتفخيخها من الداخل، أخذًا في الاعتبار، أن جوهر مشكلة التطرف الفكري مرتبط بالتحول السلوكي نحو التطرف العنيف والإرهاب، فإن التركيز على منطلقات التطرف الفكرية والنفسية والمعرفية كمحددات لهذه الصناعة الرائجة الآن والتي تصيغ البيئة الحاضنة في منطقتنا العربية والإسلامية وتكسبها الكثير من الزخم، تبدو مدخلًا وسبيلًا لامفر منه لتحصين مجتمعاتنا ومواجهة الصورة الذهنية التي يتم رسمها وتسويقها بربط التطرف بل والإرهاب بالإسلام، حتى أن البعض ذهب إلى التساؤل حول: هل نحن أمام تطرف إسلامي؟ أم أسلمة التطرف؟ وذلك استنادًا لممارسات ما تسمى جماعات “الإسلام السياسي” وتنظيمات إرهابية تحمل رايات الإسلام وتقوم على استغلال التفسير المنحرف للنص الديني.

إن محاولة إصباغ التطرف والإرهاب بالإسلام، مرتبط بالكثير من الدوافع الدولية والإقليمية والقوى الساعية لاستنزاف موارد وثروات المنطقة العربية، وزرع الدولة الصهيونية فيها كدولة دينية، ومن ثم إعادة هندسة ورسم المنطقة على أسس طائفية ودينية وعرقية، وإذا ما أضفنا ضعف ثمار عملية التنمية والمشاكل الهيكلية التي تحيط ببنيان الدولة الوطنية العربية، لاكتملت أركان عملية صناعة التطرف وسبل تغذيتها.

3ـ استغلال النص

صناعة التطرف الديني سواء عبر الفهم الخاطئ لتعاليم الدين والتعصب للعقيدة أو عبر استغلال النص من قبل التنظيمات الإرهابية أو ما تعرف بجماعات الإسلام السياسي، تصب جميعا في رسم صورة ذهنية يسعى أعداء الإسلام لاستغلالها كسلاح ضد الإسلام والمسلمين، ورغم ذلك لا يجب أن يعفينا ذلك من المسئولية، فالمشروع العقائدي-السياسي الذي تتبناه غالبية تلك التنظيمات يتجاوز رسالة الإسلام كدين قائم على الفطرة الطيبة والرحمة والأمن ونبذ العنف والاعتداء والإرهاب، بل أنه يتعارض مع الدلائل القرآنية والأحاديث النبوية الرافضة للتعصب والتطرف وهى كثيرة وواضحة، فما أدل من قوله سبحانه وتعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(النحل:125)، ويعبر رسولنا الكريم عن عالمية الإسلام وكونه لا يختص بفئة منعزلة متعصبة، ويؤكد على الانفتاح والحوار بقوله(صلى الله عليه وآلة وسلم): مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ) . كذلك يؤكد على يسر الدين وعدم التشدد ومراعاة النفس بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وشيء مِنَ الدُّلْجَةِ)

إذا نصرة الدين تكون بالمعرفة والعلم بصحيح الدين، لا أن تستند إلى التعصب والجهل بالدين وأصوله وقواعد هو مقاصده، وذلك حتى نتجنب أن نكون وسيلة وسبيل لترسيخ صناعة التطرف.

تحميل