لماذا سيد قطب؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيِّدنا ومولانا رسولِ اللهِ، وعلى آله وصحبِهِ ومَن والاهُ واتَّبع هداهُ، ثم أمَّا بعدُ:
فقد سأل كثيرٌ من الناسِ: لماذا تُكثِرون الحديثَ عن سيِّد قطب، وقد صار في عداد الموتى؟ ولماذا تتعرضون له بالنقد، وقد كان رجلاً لا يخشى أحداً، وقد كان أديباً كبيراً، وقد فسَّر كتاب اللهِ.. إلى غيرها من المناقب التي يعددها أصحاب هذا الاستشكال والتساؤل..
وقد أحببنا من خلال هذه المقالة أن نبيِّنَ بعض الحقائق التي ربما غابت عن بعض الناسِ؛ فيحملون كلامنا على غير محملِهِ، وقد بَنَوا فهمهم هذا على عدد من المقدمات الخاطئة، وسيأتي بيان ذلك..
أولاً: نحبُّ أن نكرِّرَ التنبيهَ على أننا لا نتعرض لشخص سيِّد قطب مطلقاً، وقد صار الرجل في دار الحق، بين يدي الله تعالى، المطلعِ على جميع الحقائقِ، فليس لنا أن نتكلم عن شخصِهِ، إلا من جهة الأفكار التي نبعت من فكرِهِ، ومن جهة التكوين العلمي والفكري الذي أخرج لنا هذه الأطروحة الفكرية القلقة..
فلا يظنن أحدٌ أن كلامنا هو عن ذات سيد قطب، بل كلامنا متوجِّهٌ إلى أفكار سيد قطب، ولو قالها غيرُهُ لما تغيَّر كلامنا، بل ما نقوله عنها في نسبَتِها إلى سيد قطب، نقوله عنها عند نسبتِها إلى غيره؛ لأن كلامنا في الحقيقة موجَّهٌ إلى الفكرةِ، لا إلى صاحبِها.
ثانياً: إن سيد قطب، رحمه الله تعالى، لم يكن من علماء الشريعة، ولم يتم تكوينُهُ تكويناً علمياً صحيحاً من جهة العلم الشرعي، بل كان، رحمه الله تعالى، أديباً، له قلم ساحرٌ، وكتابات رائقة، وأشعار فائقة، لكنه في جانب العلم الشرعي ليس له دراسة منهجية، وليس له شيخ تخرج به، وليس لديه انتماء لمنهج علماء الأمة، ولم يعكف حتى على كتبِهِم ينهل من معينها الصافي، بل تنكر لتراث الأمة، ورفض أن ينتفع به، وقد ذكر هو ذلك بنفسه، فيقول، رحمه الله:
” ودخلت المعاهد العلمية، فقرأت تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعت تفسيره من الأساتذة، ولكنني لم أجد فيما أقرأ أو أسمع ذلك القرآن اللذيذ الجميل، الذي كنت أجده في الطفولة والصبا، وا أسفاه، لقد طمست كل معالم الجمال فيه، فخلا من اللذة والتشويق، ترى هما قرآنان؟ قرآن الطفولة العذب الميسر المشوق، وقرآن الشباب العسر المعقد الممزق، أم أنها جناية الطريقة المتبعة في التفسير؟ وعدت إلى القرآن أقرؤه في المصحف لا في كتب التفسير، وعدت أجد قرآني الجميل الحبيب، وأجد صوري المشوقة اللذيذة..الخ )[1].
فهو هنا يقرر أنه قد سلك لنفسِهِ مسلكا وحيداً فريداً، بعيداً عن منهج علماء الأمة ومفسِّريها، بل ويرى طريقتهم جنايةً قد طَمَسَتْ كلَّ معالِمِ الجمالِ التي في الوحي الشريف! فكيف نجعله في مصافِّ المفسِّرين وقد أخرج هو نفسه من زمرتهم وأقرَّ بانحرافِهِ عن منهجهم؟!
وعندما نضع هذه الأمور في الاعتبار نجد أن الأستاذ الأديب سيد قطب، رحمه الله، قد افتقد أركانَ العلميةِ التعليميةِ الصحيحةِ، والتي هي: الأستاذ، والكتاب، والمنهج، والجو العلمي..
وعليه: فالأستاذ سيد قطب كغيرِهِ من العوام[2]، والشرع الشريف قد نهى عن الكلام في دين الله تعالى بغير عِلْمٍ، فقد قال، صلى الله عليه وآله وسلم: [ من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار][3]، وليس الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، محصوراً في نسبة الأحاديث المكذوبة إليه، بل من جملةِ الكذب عليه أن يتم التنظير لمفاهيم خاطئة، غير واردة عن علماء الأمة، ثم يزعم صاحبها أنها الدين، أو أنها من جملة تعاليم الشريعة.
وعندما نهى الشرع الشريف أن يتكلم في دين الله تعالى من ليس له دراية كافية: أمرنا أن نسألَ أهل الذكر، فقال تعالى: [ فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون]..
وعند هذه المسألة أحب أن أشير إلى أمرٍ مهمٍ، وهو أن فضل الرجل أو خسَّتَه ليست معياراً هنا، بل يستوي في التكليف بذلك جميعُ المؤمنين، حتى ولو كانوا من الصحابة الكِرامِ، فعليهم، متى لم يكونوا على عِلْمٍ، أن يسألوا من كان على عِلْمٍ، ويدل على صحة هذا المعنى ما ورد عَنْ جَابِرٍ، رضي الله تعالى عنه، قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ – شَكَّ مُوسَى[4] – عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ[5].
وهنا نجد أن الأستاذ سيِّد قطب، رحمه الله، قد غفل عن هذه التوجيهات الإلهية، والأوامر النبوية الشريفة، وتسوَّر العلم الشرعيَّ، وتجاسر على تفسير كتاب الله تعالى، من غير دراسة سابقة، ومن غير امتلاكٍ لأدوات العلم الشرعي..
فإذا تقرر ذلك، وعلمنا أن الأستاذ سيد قطب قد تكلم في غير فنِّهِ، فلا ينبغي أن يكون المطالع لكلامه على ثقةٍ فيه، فإنه قد تقرر عند العقلاء، وأهل العلم: أنه من تكلم في غير فنِّهِ أتى بالعجائب!
ثالثاً وأخيراً: لقائل أن يقول: هل كل من تكلم بغير علمٍ نالَ هذا القسط من الاهتمام الذي ناله سيد قطب؟ نقول: ليس كذلك، بل من الحكمة في بعض الأوقات أن نترك بعض المقولات للموت فلا نذيعها؛ لكنّ أطروحة سيد قطب لم تكن أطروحة فكرية فقط، بل تعدى أثرها إلى أرض الواقع، وقامت جماعة كبيرةٌ ممن يتبنون فكر سيد قطب تعمل بمقتضاه، وذهب بعضهم إلى حمل السلاحِ، وقتل الأبرياء، وترويع الآمنين، فضلا عن التعدي على أديان النَّاسِ، واتهامهم في عقيدتهم، ورميهم بالكفر..
وقد بُنِيَ فكر سيد قطب على مقولاتٍ سبعة، هي: الحاكمية، والجاهلية، والولاء والبراء، والعصبة المؤمنة، والاستعلاء بالإيمان، وحتمية الصدام، والتمكين.
وقد ترتب على بعض هذه المفاهيم تكفير الحكام المسلمين، كما ترتب على القول بمفهوم الحاكمية، وتكفير الشعوب كما ترتب على القول بمفهوم الجاهلية..
وترتب على بعضها حتمية القتال، وسفك الدماء؛ من أجل الوصول إلى التمكين في الأرض، والذي يرونه واجباً وتكليفاً عليهم!
إلى غيرها من الآثار التي لا يسع بسطها هذا المقال..
فلما كان الأستاذ سيد قطب، رحمه الله، قد تكلم في دين الله تعالى من غير دراسة، وتحصيل، وتكوين علمي صحيح، بدأت تتولَّد في ذهنه هذه الأفكار؛ نتيجةَ قراءة مغلوطة لكتاب الله تعالى، ونتيجة فهم خاطئ لتعاليم الشرع الشريف، ولما كان لهذه الأفكار أثر كبير في الواقع، ترتب عليه تكفير، وقتلٌ باسم الدين: وجب علينا أن نبيِّنَ ذلك، وأن نشرحه للناسِ، حتى لا ينفروا من دين الله تعالى، وحتى لا يتخذوا رؤوساً ليس لها من العلم باعٌ يكفي لتصدِّرها للكلام باسم الدين، أو تقرير تعاليم الشرع الشريف، فيعبدوا الله تعالى على غير ما أراد، والحمد لله رب العالمين.
هشام محمود الأزهري
___________________________________________________________
[1] التصوير الفني في القرآن، ص8.
[2] نعني بالعوامّ هنا: العوام في العلم الشرعي، ولو كانوا متخصصين في غيره من العلوم، كعالم الشريعة عامي بالنسبة لعلم الهندسة، والمهندس عامي بالنسبة لعلم الشريعة، فليس المراد بالعوام هو عموم الناس، بل قد يكون الإنسان من الصفوة في مجال من المجالات لكنه من العوام في غير هذا المجال.
[3] صحيح البخاري، ح107.
[4] أحد رواة الحديث.
[5] سنن أبي داوود، ح366.