fbpx

تعدد التطرُّف والمنهج واحد


قابلني تعليق لأحد أصدقائنا على المقال السابق يرى صاحبه أن سيد قطب لم يكن مخطئاً عندما نحَّى كلام العلماء جانباً، وانطلق يفهم القرآن من تلقاء نفسه، من غير أن يمتلك أدوات الفهم والاستنباط من الوحي الشريف؛ وحجةُ صاحبِنا أن الدين مصدره القرآن والسنة فقط، ولا يحتاج أحد إلى كلام العلماء في شيءٍ..ثم قرأت تعليقاً آخر لأحد أصدقائنا يقول ما ملخصّه أن الأستاذ سيد قطب قد فسَّر القرآن من غير تخصص، وأن بعض رموز العلمانيين كذلك يقدمون على فهم القرآن الكريم من غير تخصصٍ، وأن من تبنَّى أحد التطرُّفَيْنِ فعليه ألا يلوم الآخر..

وقد أحببتُ أن أناقش التعليق الأول من خلال التعليق الثاني، فنسأل: هل يحق لأي إنسانٍ لم يدرس ولم يتخصص في علوم الشريعة أن يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة؟

عند مناقشة هذه القضية يحصل لبس عند بعض الناس، فيخلط بين معنى الدين، ومعنى التديُّن، فنجد كثيراً من الناس يقولون: أن الدين علاقة خاصة بين العبدِ وربِّهِ؛ وبناءً على ذلك فمن حق العبد أن يفهم الشرع الشريف مباشرةً من غير أن يرجع إلى أحدٍ، وهنا يظهر هذا الخلط بين الدين كعلم تخصصي، وبين التدين الذي هو علاقة خاصة بين العبدِ وربِّهِ..

فالدين هو مجموع الأحكام التي فُهِمَت من الوحي الشريف، ولا يمكن أن يفهمها إلا من امتلك عددا من الأدوات التي تؤهِّلُهُ لهذه المرتبة، وليس أحد من علماء الشريعة هو من قرَّر ذلك، بل هذا ما نصَّ عليه الوحي الشَّريف في عددٍ من الآيات والأحاديث، وقد ذكرنا طرَفاً من ذلك في المقال السابق..

أما التدُّين فهو تطبيق هذه الأحكام، والعمل بمقتضاها، وهو علاقة خاصَّةٌ بين العبدِ وربِّهِ، هو فيها حرٌّ كامل الحريَّة..

فالدين له رجال يقومون بواجب فهم الشرع الشريف كما أراده الله تعالى، وبالمنهج الذي جاء به رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك روي عنه، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: [ يحمل هذا العلم من كل خلَفٍ عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين]..

وإذا تم تجاهل هذه التخصصية في الشرع الشَّريف كان حتماً أن يخرج علينا التطرُّف بكافَّةِ أشكالِهِ، فقد وجدنا تطرفاً سمَّى نفسه القاعدة، فكفَّر المسلمين وقتل الأبرياء، وزعم أنه يطبق الشرع الشريف..

ووجدنا تطرفاً آخر سمَّى نفسه مثقفاً، فأنكر أحكاماً ثبتت في الوحي الشريف، وأجمع المسلمون عليها، وزعم أنه يفهم الشرع الشريف كما أراده الله..

وكلاهما يشترك في تجاهل التخصصية في الشرع الشريف..

وهذه نتيجة حتمية؛ لأن الدين، كما سبَقَ، علمٌ كسائر العلوم، وإذا ما تم تجاهل التخصصية في علمٍ كالطبِّ أو الهندسة فستكون النتائج خطيرة؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى قتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها من خلال تشخيص خاطئ، أو من خلال بناءٍ يهلِكُ أصحابَهُ، وكذلك قد تُقتَل النفس التي حرم الله تعالى قتلها بفتوى من تسوَّر العلم الشرعي وزعم ألا تخصصية!

وقد رأينا المتطرف الديني يرفض المذهبية، ويقول علينا بالكتاب والسنَّةِ، وهما واضحان، ولا نحتاج في فهمهما إلى مالك والشافعي..

ورأينا المتطرف في الجهة المقابلة يقول: من حقي أن يكون لي فهمي المستقل للقرآن، ومن حقي أن أقبل من السنة ما وافق عقلي ومنطقي، وأن أرفض ما لا أراه مناسباً للعقل والمنطق..

والأول صنع داعش والقاعدة؛ لأنه فَهِم هذا من القرآن والسنة..

والثاني يرفض كثيراً من تعاليم الدين التي ثبتت؛ بل قد ينكر من ضروريات الدين ما أجمعت الأمة عليه؛ لأنه فهم هذا من الكتاب والسنة..

ولذلك يظهر لك معنى عنوان المقال، من أن التطرف قد تعدَّدَ؛ فظهر مرة في صورة داعش، وظهر مرةً في صورة إنكار تعاليم الدين، والأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، لكنَّ انطلاق التطرُّفَيْنِ كان من نقطة واحدة، وهو إنكار التخصصية في العلم الشرعي..

وهنا يأتي تعليق صاحِبِنا: أن من سلك أحد التطرُّفَيْنِ وزعم أن من حقِّه أن يفهم الشرع الشريف من غير تخصص أو دراسة؛ فعليه ألا ينكر على الآخر الذي يقول بعكس كلامِهِ تماماً؛ لأنه كذلك زعم أنه يفهم الشرع الشريف بنفس المنهج، من غير تخصصية ولا دراسة..

لكنَّ من تأمل الوحي الشَّريف، وتنزَّه عن التعصُّبِ، وتمسَّك بمسلك العقلاء سيجد أن الله تعالى عندما أوحى لنبيّه، صلى الله عليه وآله وسلَّم، بهذا الوحي الشريف: أنزل الوحي، كتاباً وسنةً، ومعهما مناهج فهمها، التي جعلها العلماء بعد ذلك علوما كاملة، من اللغة والأصول وغيرهما..

ومتى أعمل العالم هذه الأدوات والمناهج التي جاء بها الشرع الشريف، في فهم نصوص الوحي الشريف، لم يصنع داعش، ولم ينكر شيئا من دين الله تعالى، بل أخرج فهماً نورانياً، يصنع به الحضارة، ويزكي به النفس، ويعبد به الله تعالى على بصيرةٍ.

ولهذا نقول: إن الدين علمٌ وتخصص، وله مناهج وطرق في فهم الوحي الشريف، وله علماء ورجالٌ قاموا بهذا الواجب أحسن قيام وعلينا أن نحترم هذه الجهود التي بذلوها في فهمِ الشرع الشريف، ونَقْلِ الدِّين لمنْ بعدهم كما أخذوه عمَّن قبلهم، وأن نتمسك بمنهجهم القويم، وأن نسير على دربهم المستقيم.

وربما كان للحديث بقية، والحمد لله رب العالمين.